Saturday 1 July 2017

مخرج ومونتير



هل نقول مخرج ومولف؟
                              سيرجي ايزنشتين والتوليف الخلاق  
منذ تأسست السينما في مصر ومنذ إرسال البعثات لتعلم صناعة السينما وخاصة فنون المونتاج السينمائي ارتبط كل مخرج بمونتير عمل معه كل أفلامه، مونتير يرتاح معه ويتفاهمان ويتحمل جنونه ، توأما روحيا يمتص غضبه وينفذ بلمساته مشاهد الفيلم في إيقاعها النهائي، مصححا لأخطاء العمل ومبرزا أجمل ما يمكن الوصول إليه من المادة المصورة. يوسف شاهين معه شوشو، شادي عبد السلام وتلاميذه مع كمال أبو العلا ورحمة منتصر،عاطف الطيب ومحمد خان معهما نادية شكري، محمد راضي معه أحمد متولي،  مخرجين ثابتين مع عادل منير أهمهم سعد عرفة ومن بعده شريف عرفة، سمير سيف مع سلوى بكير، ومعها إيناس الدغيدي أيضا ، حيث فضل أصحاب مدرسة حسن الإمام الفنية بتنويعاتها سمير سيف وإيناس الدغيدي الدغيدي فضلوا المونتيرة سلوى بكير خريجة دفعة 1970 تلميذة ومساعدة سعيد الشيخ .
في الأغلب الأعم يكون المخرج مع المونتير ثنائيا فنيا يشبه البعض العلاقة بعلاقة رفق، ويشبهها آخرون بأنها علاقة بين مريض مهووس بمادته المصورة وبين الطبيب النفسي الذي يعالج علاقة الهوس هذه فيستبقي ما يكون في صالح العمل ويحذف كل ما يعيق سرده أو يشوش على رسالته.
ستديو الأهرام من الاستديوهات المتكاملة لصناعة السينما المصرية حيث يضم بلاتوه التصوير، وورش نجارة ومخازن ديكورات وبوفيه يخدم على العاملين، معمل تحميض، قسم مونتاج بوزيتيف ونيجاتيف، مركزا للصوت ومعمل للتحميض والطبع. وبالطبع إدارة تنظم العمل في كل هذه الأقسام ، كما ضم أيضا مركز الأفلام التسجيلية الذى تغير إلى المركز القومي للسينما ومازالت الإدارة العامة للإنتاج تشغل هذا المكان حتى الآن. 
                         المونتير الكبير أحمد متولي على منضدة التقطيع
قبل تخرجي من المعهد العالي للسينما وبمجرد علم أصدقاء أخي – من الفنانين والمثقفين – أنني أدرس المونتاج كانوا ينصحونني بالتدرب مع المونتير أحمد متولي. مثقفا ثوريا يتمتع بسمعة طيبة بالتميز في مجاله. حجرات المونتاج باستديو الأهرام كانت تشغل صفا بين حجرة للمعدات في مواجهة مركز الصوت. لكل مونتير حجرة للتقطيع بها منضدة التزامن ودواليب وأرفف لحفظ الأفلام، فهذه حجرة أحمد متولي ومساعدته نفيسة نصر، تجاور حجرة رشيدة عبد السلام – شوشو- ومساعدها محمد الزرقا، ثم المونتير عبد العزيز فخري ومساعده محمد الطباخ، ثم فكري رستم ومساعده طلعت فيظي. حجرة رشيدة تفتح على حجرة أصغر موضوع بها الموفيولا، جهاز المونتاج التقليدي للفيلم 35 مللي، وحجرات أخرى منفصلة موضوع بها موفيولات يعمل عليها الآخرون. هناك قسم لمونتاج النيجاتيف به ثلاث حجرات كبيرات لمونتيرة النيجاتيف القديرة – والأشهر في الستينيات والسبعينيات – مارسيل صالح، وحجرة أخرى لمونتيرة النيجاتيف ليلى فهمي وزوجها عادل شكري ، والثالثة كانت للسيدة زوجة حسين عفيفي مونتير البوزيتيف الذي كان يعمل في استديو نحاس.

استديو متكامل حيث يتم التصوير وتحمض العلب فورا في المعمل ليتسلمها مساعد المونتير فيعمل على ترتيبها طبقا لتقرير التصوير وجمعها في لفات وإجراء عملية التزامن مع شريط  الصوت الذى تم نقله من شريط التصوير ربع بوصة إلى شريط مغناطيسي 35 مللي، في فصول ليعمل عليها المونتير على موفيولا منفردا أو بوجود المخرج حسب أسلوب العمل الذي يفضله المخرج. مخرجي الثمانينيات لا يغادرن مقعدهن بجوار المونتير يكاد الواحد منهم يتمنى لو استطاع أن يمسك بذراع التشغيل مع المونتير ويحدد معه لحظة القطع المناسبة. أما جيل الكبار كمال الشيخ حسن الإمام، صلاح أبوسيف، وتوفيق صالح فيتركان الفيلم مع المونتير ويحضرون فقط للمشاهدة بعد إنجاز العمل قبل إجراء المونتاج النهائي وقبل المكساج.
محمد راضى مع نفيسة نصر أولا ثم مع أحمد متولي، متفرغ تماما للمونتاج، يكاد فيلمه يعاد إخراجه ثانية على الموفيولا، حسين كمال مع شوشو يلازمها أيضا خلافا لعملها مع الإمام أو كمال الشيخ، تحضر شوشو الى الاستديو في الصباح الباكر، تمر عليها مارسيل صالح يتجاذبان أطراف الحديث على الرصيف المواجه للحجرات قبل أن تعمل الورشة التي لا تتوقف،  يجهز المساعد الفصل الذي سيمنتج، بالقلم الشمع تضع علاماتها، يقوم بتنفيذ العلامات والقطع بآلته، سريعا يلف الديشيه، ويضعه في علب خاصة بذلك. كما الفرن البلدي يمكن لأرغفة الفيلم أن تصور يحمض النيجاتيف، تطبع نسخة بوزيتيف، ثم تجري جملية تزامن مع الصوت، يتم المونتاج وتمنتج ثم يحفظ حتى العلبة الأخرى، الفيلم يقسم إلى لفات تصل حوالي عشر دقائق قبل أن يتطمئن المونتير ومخرجه على الإيقاع النهائي بعد قياس الموسيقى وتركيبها وتركيب الأصوات الأخرى من مؤثرات حية  فتبدأ مونتير النيجاتيف عملها بعد أن تتم عملية مزج شرائط الصوت في قسم الصوت.
(عندما تذكر كلمة مونتير لاتعني فقط الشخص الذي يعمل في حجرة المونتاج، فقد يكون المؤلف أو المخرج أو المونتير هو صاحب القرار النهائي للقطع والتوليف) كارل رايس كتاب فن المونتاج السينمائي.

يتم تصوير الفيلم في حوالي أربعة أسابيع، ولكن المونتاج وعمليات ما بعد التصوير الأخرى حتى طبع النسخة النهائية الصالحة للعرض يستغرق في المتوسط أربعة أشهر، البعض يكتفي بشهرين وأعمال أخرى تصل إلى ستة أشهر. حسب تردد المخرج، وحسب توفير الإنتاج لما يحتاجه الفيلم ليكتمل، البعض يعمل بأسلوب الطابونة (يلا الفيلم نازل على العيد ولازم نخلص) والبعض الآخر يأخذ وقته فيدقق ويراجع ويعرض نسخة عمل على مهتمين، ويراجع مرات ومرات، لا يدفع بالفيلم إلى الطبع إلا بعد الاطمئنان الكامل والرضا على المستوى العام للفيلم، المخرج محمد راضي له كلمة شهيرة ( الفيلم بيفلت من إيدي) يقولها وهو في حالة من الخوف أن يتعجل فيندم على أمر كان يمكنه تداركه.
ليلى فهمي على تربيزة النيجاتيف 

استديو نحاس كان أصغر والمعمل بجواره وليس جزءا منه، في مبناه القديم على طراز الفيلات القديمة كانت حجرات المونتاج في الدور الأول للمونتير الكبير سعيد الشيخ، بجواره المونتير صلاح عبد الرازق، سلوى بكير مساعدة للشيخ وعنايات السايس مساعدة لعبد الرازق. كل له منتجون يرتاحون إليه، ومخرجون لا يعملون إلا معهم. اتجاهان كبيران في السينما يحددها أسلوب الإنتاج والإخراج وسطوة النجمات اللاتي تحضر بعضهن عملية المونتاج وتكون لها رأي في عمل المونتير. سعيد الشيخ الأخ الأصغر للمخرج كمال الشيخ الذى كان مونتيرا، لا يقبل الشيخ تدخل النجوم في عمله، وهو وإن كان من أصحاب الخبرة إلا أن أستاذيته خرجت ودرست لأجيال من مونتيري مصر الأكاديميين وأولهم أحمد متولي وعادل منير الذي كانت حجرته في الطابق الثاني من ستديو نحاس وبجواره المونتيرة نادية شكري. تدربت في حجرة سعيد الشيخ أستاذي بالمعهد العالي للسينما في فترة شهدت إنتاجا كبيرا، كان سعيد الشيخ يعمل في ستة أفلام في وقت واحد، دواليب الأفلام كانت تشغل ممرا طويلا يربط حجرات المونتاج معا، فيلم لأشرف فهمي، وآخر لسعيد مرزوق، وثالث لعلي بدرخان، كانت النجمة سعاد حسني تثق بلمسته وحين أصرت أن يقوم بمونتاج فيلمها "أميرة حبي أنا" رغم أن الإمام لم يكن يعمل مع الشيخ، عملا معا واكتشف سعيد الشيخ خللا في تسجيل الأغاني فرفض أن يقوم بمونتاجها فقام به صلاح عبد الرازق ومساعدته عنايات، شهدت هذه التجربة الفريدة أثناء تدربي قبل التخرج.  وكنت أحضر – كما من تربوا بالريف – باكرا عن موعدي فالتقيت بمحمد راضي وتعارفنا لأنه كان يحضر باكرا أيضا. حين مرض عادل منير وكان يقوم بعمل مونتاج أبناء الصمت حضر أحمد متولي لاستكمال الفيلم، ناداني محمد راضي ( اطلعي يا صفاء) وانضممت لفريق مونتاج الفصل الأخير من أبناء الصمت مع نفيسة مصر مركبة الفيلم القديرة وواصلنا الليل بالنهار، كان العمل يجري على قدم وساق لأن موعد العرض محجوز في عيد تزامن مع السادس من أكتوبر ذكرى الانتصار. الفصل الأخير من الفيلم كان فيلما تسجيليا يكاد يكون متكاملا ومنفصلا عن الفصول الدرامية للفيلم كله الذي قام عادل منير بعمل المونتاج لها دون أن يتمكن من تركيب الموسيقى، حضر بليغ حمدي، قصيرا بالبالطو وضع يده على كتف أحمد متولي مطمئنا لوجوده لإنهاء العمل. البحث في الديشيهات كان مهمتي وكنت أقوم بها بشغف شديد، طالبة تدرس المونتاج شهدت كيف يتم بناء فيلم في المونتاج بروح ثورية وبفريق عمل يستميت ليخرج العمل في موعده بأرفع مستوى ممكن.
محمد راضي خريج الدفعة الثانية من معهد السينما، قدم أول أفلامه الحاجز 1964، وآخرها حائط البطولات 2005 مع المونتير طلعت فيظي، جل أفلامه مع المونتير أحمد متولي خريج دفعته، وحين اختلفا وأسند فيلمه " أبناء الصمت " لعادل منير- زميل الدفعة أيضا-  شاءت الظروف أن يكمله أحمد متولي. شرفت بمونتاج فيلم واحد معه " الحجر الداير " حين انشغل أحمد متولي مع عاطف الطيب الذي أسند إليه " ناجي العلي" واستمر معه حتى آخر أفلامه.  الخلاصة أنه مع استثناءات قليلة يكون المخرج مع مونتير تؤأما فنيا يبدعان معا فيلما متكاملا.
لم أعمل مع نادية شكري، فقط تدربت مع الثلاثة الشيخ ومتولي ومنير، ولكن شكري كانت تشدني بشخصيتها المرحة، كنت أسمع دعابات متبادلة بينها وبين حسن الإمام، تكون خارجة أحيانا فأخجل منهما. شاءت الظروف أن أقترب منها حين تم التفكير في تجميع المونتاج في بداية الثمانينيات فيما سمي مجمع المونتاج الذي أسس على طابقين، كل مونتير له حجرة تقطيع مفتوحة على حجرة موفيولا. بمجمع المونتاج كانت حجرات حسين عفيفي، أحمد متولي، صلاح عبد الرازق، صلاح خليل في الطابق الأرضي بجوار حجرة مخصصة لجريدة مصر السينمائية، وفي الأعلى عادل منير، نادية شكري، سعيد الشيخ، سلوى بكير. شهد المجمع صحوة أفلام الثمانينيات كل مخرج مع مونتيره المفضل وظل الحال منتعشا حتى منتصف التسعينيات مع وصول السينما المصرية لما سمي " أزمة السينما المصرية" بتراجع الإنتاج كما وكيفا وانتشار أفلام المقاولات، كان العالم يتغير والموفيولا أصبحت معدة قديمة وفكرت شركة الاستديوهات في التحول إلى مونتاج الأفيد ومن بعده الديجتال، رفض قدامى المونتيرين ومعهم مهندسي الصوت ، هاجوا وماجوا، فانفردت بالتحديث شركة خاصة سميت بالإكسير، بدأ الخريجين الجدد والخريجات في العمل على أجهزة المونتاج الحديثة، وكان من أوائل الأفلام فيلم هيستريا للمخرج عادل أديب مع المونتيرة منى ربيع، وحين لم ينجح الفيلم تجاريا انتشرت آراء أن المونتاج الحديث هو السبب، كتبت مقالا عن هذا الأمر، مقالا دفاعيا عن فن المونتاج وعن أساليبه الجديدة، عنونته " المونتير ليس حاويا والمونتاج يبدأ من السيناريو" وهي القاعدة الأولى التي نتعلمها في معهد السينما، على يد سعيد الشيخ وكمال أبو العلا، وأيدها من بعدهما عادل منير وأحمد متولي. (يقول نجيب محفوظ عندما أكتب الروايات فإنني أؤلف، وعندما أكتب السيناريو فإنني أولف) مؤكدا القاعدة بأن المونتاج يبدأ من السيناريو
 المونتيرة الكبيرة نادية شكري سيدة الصحبة 
تم تكهين الموفيولا ومعها كل المعدات المصاحبة والتي تعمل على نسخة عمل 35 مللي على شرائط مثقوبة وتغيرت مهمات كان يقوم بها المونتير ومساعده ، بعضها تم ترحيله إلى مهندس الصوت ، والبعض الآخر إلى مخرج دعاية، وظل فن المونتاج على أسسه الفنية، إعادة إخراج للفيلم كما قال سعيد الشيخ" المونتير مخرج تاني للفيلم، المخرج يعمل على ممثلين وديكورات وسلاحه الكاميرا، والمونتير يعمل على مادة مصور وسلاحة آلة المونتاج" انتقلت مسئولية عمل المقدمات الدعائية " التريلر " من مساعد المونتير إلى مخرج دعاية ، وأسندت الشرائط المساعدة من مؤثرات إلى ما سموه مصمم الصوت، وهما مهمتان " المقدمة والمؤثرات "  كانت تمثلان تدريبا عمليا يمارس فيه المساعد خبرته قبل أن يسند إليه مسئولية مونتاج فيلم كامل مع مخرج يجد فيه صدرا حانيا متفهما لشطحاته وجنونه الفني.  
صفاء الليثي
من واقع خبرة العمل في المونتاج


نشر بالعدد 11 من مجلة الفيلم إصدار الجيزويت 

 

No comments:

Post a Comment