Thursday 23 April 2015

نص أدبي .. لماذا ...

لماذا أنا مغرورة ؟

يصفنى الكثيرون بأننى مغرورة، وأنا لا أغضب ، أعترف أننى بالفعل مغرورة ولكن لماذا أصبحت مغرورة، لماذا أنا مغرورة ؟ في السادسة من عمرى كنت لا أتحمل شعاع الشمس، فأزر عينى وأنظر إلى السماء، أشاهد بعينى الضوء وأرى ألوان الطيف، أرددها ، أزرق ..... يسمعنى أخوتى فيحملوننى فى سعادة، صفاء عبقرية اكتشفت ألوان الطيف، تبتسم أمى فرحة بابنتها، لا تعلق بل تدارى عواطفها وتأمرنى بالذهاب إلى الحمام والاغتسال، كفاية لعب فى الشارع اتمليتى تراب. يصحبنى أبى وأختى الأصغر فى نزهة على ترعة قويسنا، لا أكف عن الأسئلة، وهو بصبر يجيب ويحكى، هو فى طريقة لزيارة صديقه الحاج صابر فى مسكنه الجميل على شاطيء الترعة، بيت من بابه، هكذا كنا نسمى الفيلات الصغيرة، أما بيتنا فكان فى عمارة سكنية تفضل أمى سكنى الدور الأرضى لكى تستفيد بالمنور، حديقة خلفية لتربية الطيور، والأرانب، والديكة الرومية، نلبس ملابس حمراء ونقف لنستفز الديك، الذى ينتفخ وينفش ريشه ويزعق : كعر عر عر. ونصفق طربا. فى الأعياد نخرج بفساتيننا الجميلة، يفتح باب وتخطفنا يد أبلة نرجس التى تسكن شقة جميلة، تجلس وزوجها فى انتظار ظهورنا، تفتح لنا علبة شوكولاته ينبعث منها موسيقى، نتردد فى أخد الشوكولاته وهى تهز رأسها لى ولأختى ولصديقتى، تغلق العلبة فتنقطع الموسيقى، نحن لا نمتلك علبة مثلها ونحب سماع الموسيقى أكثر من التهام البون بون. تجلسنى أبلة نرجس على حجرها، تساوى أطراف الفستان تساعدنى على فض غلاف البون بون وتمسك بورقة البخت، تديرها لى وتقرأ " من جد وجد"، من جد وجد، أرددها فى ذهنى وأعرفها هذه الكلمة نسمعها فى البيت وفى المدرسة. نبدأ فى التململ فمهما كانت اغراءات الشوكولاته وعلبة البونبون والموسيقى، نريد أن نصل إلى بيت زميلتنا وأسرتها الريفية، حيث يكون النورج يدور لهرس القمح، نجلس مع ناهد على النورج ونطبل ونغنى، النورج تجره بقرة مغماة العينين تلف الدائرة ونحن نغنى، حتى نتعب أو ندوخ، فنجرى عائدين إلى بيتنا فى شارع المحطة، نقرأ ونحن سائرين شاى الشيخ الشريب، والإعلان على الحائط بشيخ مثل شيوخ الكوتشينة، ندخل البيت فتهمس لنا أختانا الأكبر خشوا على الحمام واقلعوا هدومكم دى اتوسخت خالص. لو كان اليوم جمعة فيكون الغداء من السمك، انا وأختى نلتقط لقيمات عليها قطع السمك خالية من الشوك، يفصصها لنا الكبار بابا وماما والأخ الأكبر، هناك تنافس فى تقديم لقيمات السمك لنا ونحن فى غُنج نأكل على مهل مستمتعتين بمائدة الطعام الوفير أمامنا. يذهب الكبار الى قيلولتهم ونبقى نحن نلعب بالعرائس، نوشوش بعضنا حتى لا نقلق نوم الكبار.
فى المدرسة أقرأ خطبة الصباح وقد كتبها لى أبى، رغم أننى صغيرة القد وما زلت فى الرابعة الابتدائية، أنا من تحى العلم ومن تقرأ خطبة الصباح بصوتى الجهورى، وتمكنى من القراءة الصحيحة التى دربنى عليها أبى. تنتهى الخطبة بحكمة: " قل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا" بالطبع لا أفهم معنى الكلمات هذه ولكننى أشعر بحماسة شديدة وأنا ألقيها، أشعر أن أمرا جللا سيحدث بعدها. فى العيد الكبير أمرض بالسخونية، مغص وقيء فأُمنع من مصاحبة الأطفال ممن هم فى سنى وأخرج بصحبة أخى وابن خالى سامى، يقطفون التوت من على الشجر ويضعونه فى يدى الممدودة لهما، هما يتناقشان فى الأدب والشعرـ ألتقط بعضا من كلامهما وأخزنه، وحين أعيده فى وقت لاحق، يصفقون فرحين بعبقرية الطفلة ضعيفة البنية التى تمرض كثيرا وتقضى العيد فيما يشبه العزل الصحى مع الكبار.
انبهار الكبار وفرحتهم بى سببت لى اعتزازا بالنفس ورغبة دائمة فى أن يرضوا عنى، فأحفظ الدرس وأحسن الخط، فى الفصل تشيد بى الأبلة وتقول لزميلاتى أننى سأجلس كمديرة عظيمة على المكتب بينما هم.. أخجل من ترديد وصفها لهن ولا أحب أن أتذكره. يبقى دائما أننى كنت محبوبة الجميع والمدللة فى البيت والمدرسة. كان هذا فى المرحلة الابتدائية والتى عشتها فى مدينة قويسنا بالمنوفية قبل أن أنتقل مع أخوتى لنعيش فى القاهرة حيث يدرس فخرى فى الفنون الجميلة وتحية موظفة فى الشركة العربية للتجارة الخارجية بميدان التحرير، ووفاء فى كلية الطب جامعة عين شمس، فكان على أن أدخل مدرسة اعدادية فى القاهرة، والتحقت بالمعادى الإعدادية للبنات، كان ورقى قد وصل المدرسة قبل وصولى وكانت إحدى الإداريات تأتى الفصل وتسأل عن صفاء الليثى حجاج الآتية من قويسنا منوفية، ومن هنا انتظرت زميلات الفصل وصول القروية ليسخروا منها ومن طريقتها فى الحديث كما تصوروا. فى الفصل وضح تفوقى وسألننى لماذا لا أتكلم مثل الفلاحات، قلت لهن، دول فلاحين الراديو نحن نتكلم مثلكم. لم أكن قادرة على شرح الفارق بين الريفيات القح بأسرهن ممن يعملون فى الحقول ويربون الماشية، وبين أسرتى البرجوازية الريفية، فأمى المتعلمة التى تربت فى القاهرة تملك كبرياء لا نظير له فتتأنق فى حديثها، ووالدى مدرس اللغة العربية ويكتب أزجالا كان يتحدث بعامية مختلفة عن لهجة فلاحى الدلتا. فى الشهور الأولى كنت الأولى على الفصل، ثم تراجعت وأصبحت فى المركز الثالث، كان اهتمامى بالرسم وتشكيل طين الصلصال وقراءة الأدب تشغلنى عن المذاكرة وتمدنى بخبرات جعلتنى أصبح مستشارة نفسية لزميلاتى فى الأورمان الثانوية بنات التى التحقت بها بعد ذلك .  كان الغرور يصور لى أن الفتاة الجميلة على علب الشوكولاته هى رسمة لى، رغم تعدد المرايا فى بيتنا، مرآة دولاب أمى التى تظهرنى كاملة، ومرايا أخرى، كانت صورتى  عن نفسي فى ذهنى أقرب لهذه الطفلة الإنجليزية بخدودها التى تشبه التفاح وشعرها الذهبي، هكذا صور لى خيالى نتيجة اهتمام الأسرة بى وتدليلهم لى، أنا مغرورة ولا أكره هذه الصفة بل أجد " الغرور صفة محببة " لأنه يصبح سلاحا دفاعيا ضد الفقر وضد الشعور بالفارق الطبقى بينى وبين زميلات تربين فى بيوت أغنى، ولديهن كماليات ليست عندى، متنعمات بحنان الأم التى فقدتها بعد عام واحد من انتقالى الى القاهرة، ساعدتنى قراءاتى الأدبية المبكرة على تجاوز محنة فقد الأم، ولم أشعر بقسوة زوجة الأب، ولم أصب بالعُقد لأنى أسكن فى المساكن الشعبية فى امبابة بينما تسكن زميلاتى فى الدقى والعجوزة. ومن شدة غرورى واعتزازى بنفسي كنت أسعد بسماعى لزميلات الحي تجبن على سؤال الأخريات " انت ساكنة فين؟" فتقلن بثقة عند صفاء، وتتركننى لأصف أننا فى حى امبابة المنقسم إلى مدينة العمال ومدينة التحرير، وأننى فى المساكن الشعبية بين المدينتين، وأننا نعيش سعداء  حيث يغنى أخى وهو يرسم، وتحفظ وفاء دروس الطب بالإنجليزية، وأحفظ نصوص القرآن وأسأل عن معانيها فأجد شرحا يدخل العقل. كل هذا فى حجرة واحدة دون أن ينزعج أحدنا من الزحام. نتحلق حول تمثيلية الخامسة والربع بالبرنامج العام من راديو الترانزستور الذى اشترته تحية أختى الكبيرة الموظفة من راتبها، نقلب صفحات مجلة حواء ونتأمل جمال العارضات. وحين تحضر ابنة خالى القاهرية لزيارتنا وتسأل متعجبة " ما عندكمش فريجيدير" فنجيبها عندنا القلة، نشرب من القلة بعدما نرفع غطاءها النحاسي الذى اجتهدنا فى دعكه بالليمون ليصبح ذهبيا لامعا، نمسح فمنا بكف يدنا حامدين الله على نعمة العيش فى الرضا، مغرورين بتماسكنا كأسرة لا نمتلك أرضا ولا ذهبا ولكننا نمتلك معارف تجعلنا قادرين على الاستمتاع بحياتنا ونحن نقرأ قصصا مترجمة عن مسرحيات عالمية، نقرأ أولاد حارتنا مسلسلة فى أهرام الجمعة أو نحضر فيلما فى دار عرض كبيرة بوسط البلد فى القاهرة. يأخذنا أخى الى حفلة سينما مترو الصباحية، وعندما نكبر تأخذنى تحية إلى سينما ميامى فأحضر معها ليلة الزفاف لسعاد حسنى وأحمد مظهر.
أكبر أكثر فأصطحب أنا صديقاتى إلى سينما ريفولى ونشاهد معا الأخوة كارامازوف. نشعر بجمال الحياة وبالرضا لأننا قادرين على المقارنة بين هاملت الروسى وهاملت الانجليزى بعدما نكون قد تناولنا أيس كريم من قويدر وعدنا بأتوبيس 177 عتبة امبابة من أول الخط حتى نهايته.

الآن ولو ضبطنى أحدكم سارحة ومبتسمة وسأل نفسه " هى فرحانة بنفسها كده ليه " فليعرف أن عناية أمى وأبى، ورضاهم عنى هما السبب، وأن محبة الأهل والأصدقاء كافية لجعلى أمتليء فرحا وأقول لنفسي "  ده ربنا جميل بشكل ".

نشر بمدونة +18 وانت حر تحرير دعاء سلطان الأحد 19 أبريل 2015
http://www.za2ed18.com/%D8%B5%D9%81%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D8%AB%D9%8A-%D8%AA%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A3%D9%86%D8%A7-%D9%85%D8%BA%D8%B1%D9%88%D8%B1%D8%A9%D8%9F/

No comments:

Post a Comment