Monday 19 December 2022

19 ب" للمخرج أحمد عبد الله السيد

 غروب واختفاء الطبقة الوسطى

لا أتصور أن مخرج فيلم " 19 ب" بدأ تفكيره بالفيلم من رمز ما أراد أن يعبر عنه، فبحث عن مكان يتناسب مع صورة الرمز أو المجاز. بل أتخيله في حلم يقظة يراوده هذا المنزل القديم الباقي وسط منازل حديثة لا يحب أن يراها ولا يلحظها عن قرب. منزل قديم يعيش فيه رجل مسن مع حيواناته الأليفة وأغاني محمد عبد المطلب وكأنه حلم له شخصيا ، نائيا عن الجميع وقد ظهر له فجأة عدو عائد من السجن ،  شخص مجرم يهدده أكثر مما تشعره سلطة الحي وموظفيها بالتهديد. عناصر الواقع المعيش الذي نعرفه، أغلبنا يعرفه أو مر على مشابهات له في أحياء القاهرة الطبقة الوسطى، بقايا فيلات توشك على الانهيار وحولها عمارات حديثة كعلب شاهقة بلا تمييز. أمر عليها في حي الزمالك، أو جاردن سيتي، أو منيل الروضة. صورة انطلق منها المخرج المؤلف، لا توجد قصة قوية، بل قصة عادية لحارس بيت قديم، يتلقى أجره شهريا ويعيش وحيدا رافضا ترك المكان بحجج عدم التوافق مع زوج ابنته، ولكنه "مندوه" لهذا البيت ومكلف بحراسته، كنداهة ارتبط مصيره بهاـ   يتلاعب بنا السرد قليلا، أين أصحاب البيت وأين المحامي عادل بيه؟ لمن يبحث منا عن التشويق سيفكر أن المحامي  قد يكون رحل عن الدنيا فلم يعد لمن كلفه وجود. سيظهر المحامي عادل وينهي هذه الصفحة ويبقى لغز أصحاب البيت، منى وسارة ورثة المالك، اختفوا، هنا ألتقط مجازا واضحا لي عن اختفاء الطبقة الوسطى، لم يعد لها وجود، وبقي فقط حارس البيت الأمين والشقي المجرم. تحاول ابنة الحارس/ ناهد السباعي طلب النجدة فيقول لها الشقي لن يستجيب أحد، ماحدش هيسمع صوتك.

الوضع الآن والحادث أن البيت القديم أصبح مغنما للضباع، ليأكلوا عيش، المحامي نفسه نصح الحارس، كل عيش. وحارسنا الأمين مربوط بسلسلة غير مرئية، الحيوانات الأليفة ليست هي الموضوع، فقط عناصر من الواقع تكمل رسم شخصية الحارس العطوف على المساكين، والسواد غير طاغ على الصورة فهناك الدكتورة تعطف على الحيوانات وتساعده في رعايتها، أمها تظهر في مشهد وحيد/ منحة البطراوي، صامتة، يغلق زجاج نافذة السيارة فتبدو خلفه خيالا يتلاشى تشير بوهن بيدها للحارس، بينهما حوار صامت وبقايا ذاكرة. ستغيب الدكتورة في أجازة الصيف، يستجمع الحارس شجاعته ويقاوم الصعلوك/ أحمد خالد صالح، الذي تسقط عليه دعامة البيت الذي وضعته سلطة الحي، يعود المجاز ليبرز على سطح الحكاية، اختفى التهديد مؤقتا والحارس مع بواب العمارة الجار يشربان الشاي. وما زالت منى وسارة والدكتورة / فدوى عابد غائبات، اختفاء دائم وآخر مؤقت لنساء الطبقة الوسطى حارسات القيم، ربما. البيت القديم قائم والقطط تتكاثر . ويبقى المجاز الأوضح تلك الصخرة التي يحركها بصعوبة ويضعها أمام باب البيت حتى لا يركن السايس سيارة في المكان، يفاجأ بها داخل بيته، انت مش قدنا، يستجمع كل قواه ويحركها صخرة سيزيف عصرية، هذه المرة ينجح في زحزحتها، أفكر في الممثل سيد رجب والكاميرا في مواجهته ولا وجود لدوبلير، أزاحها فعليا وفريق الفيلم يراقب، لم يصفق أحد في صالة العرض ولكننا تنفسنا الصعداء. مازالت هناك فرصة. والمباراة لم تنتهي بعد.

في أسلوب يحاكي قواعد سينما "الدوجما"، إضاءة الفيلم لها مصدر واضح، الشمس ولمبات الكهرباء. صورة أجاد إضاءتها مدير التصوير الشاب مصطفى الكاشف، لا موسيقى إلا من مصدر نراه في الصورة، راديو كاسيت متهالك يتم ضبط صوته بعد وشيش لضبط الموجة. بقايا زمن يتعلق به الفنان صاحب الفيلم المتوحد مع بطله والمشفق عليه أيضا، أتجاوب كمشاهدة مع حلم يقظة أحمد عبد الله السيد وأفسره على طريقتي، أتجاوب معه، أعيش معه حلم يقظته باستمرار الحياة في 19 ب رغم المخاطر وفي غياب السلطات.  

المخرج أحمد عبد الله السيد من جيل السينما المستقلة المصرية، في بدايته عمل كمونتير لمخرجي جيله في أفلام ابراهيم البطوط وتامر السعيد وماجي مورجان. تنوعت أفلامه في أساليبها الفنية بداية من "ميكرفون"، و"ديكور"، و"فرش وغطا"، و"ليل خارجي".. وأخيرا" 19 ب"، ورغم التنوع مازال في حضن الواقعية وتجلياتها، مازجا عناصرها الأساسية برؤيته التي تنتقد الواقع دون أن تهيل التراب عليه.

فيلم بطولة الممثل القدير سيد رجب، ولكنه ليس من نجوم الشباك، لا يراهن المنتج محمد حفظي على إيراد شباك التذاكر، والمستقبل معه، فهناك المنصات التي فتحت نوافذ للتوزيع تتوجه إلى جمهور لا يبحث عن المتعة السريعة ولا ينجذب فقط إلى نجوم الشباك. منصات ستلغي الفوارق بين ما يسمى فيلم مهرجانات وفيلم شباك. جمهورها ينتظر ويتجاوب مع أعمال يجد فيها متعة عقلية ومعرفية.

صفاء الليثي

نشر بجريدة الصباح العراقية 12 ديسمبر 2022

مشرف صفحة السينما الناقد السينمائي علي حمود الحسن

جريدة الصباح العراقية 12-12-2022.pdf



 

 

  

No comments:

Post a Comment