Tuesday 2 May 2017

المبدع خيرى بشارة وفنه المفعم بالمشاعر



فى انتظار عودة الابن الضال

فى حجرات المونتاج باستديو الأهرام أسعدتنى الظروف بالاقتراب من المخرج خيرى بشارة مع بدايات أعماله التسجيلية مع المونتير الكبير أحمد متولى ومساعدته القديرة نفيسة نصر ،أفلام "عبد العاطى صائد الدبابات" (1974)  و "طبيب فى الأرياف "  (1976)  و" حديث الحجر " (1980) عن المثال الفطرى عبد البديع عبد الحى الذى لم يدرس أكاديميا ولكنه قدم نحتا متميزا بأسلوب خاص. كانت الظروف السياسية قد تغيرت بعد حرب 1973 وكذا توجهات المركز القومى للأفلام التسجيلية برئاسة صلاح التهامى صاحب سلسلة أفلام مذكرات مهندس عن السد العالى، لم يعد هناك حلم قومى يرتفع فوق الأفراد، واستطاع خيرى ومجايليه داوود عبد السيد وعاطف الطيب أن يقدموا أفلامهم عن شخصيات جميلة كما يصفها خيرى بشارة المنحاز لطبقته الوسطى وحلمها بالتفوق، فاختار عبد العاطى الجندى الذى دمر 22 دبابة بسلاحه وحده، فكان فيلم بشارة الكبير" عبد العاطى صائد الدبابات" عن شاب طموح من أصل ريفى تابعه خيرى فى فيلمه القصير وصوره فى مشهد الختام وهو يركب لمبة إنارة فى شقة الزوجية، خيرى الذى شعر بأن عبد العاطى شابا من جيله ركز على فرحته بتجهيز بيت لحياته مع خطيبته الجميلة التى سيتزوجها، بعاطفة محبة لشخصية من يصوره وثق خيرى للنصر من خلال البسطاء وليس بالتركيز على القادة الكبار، ومع " طبيب فى الأرياف " قدم د. خليل فاضل المثقف الثورى ودوره فى الوحدة الصحية بإحدى قرى الصعيد، يتماهى خيرى مع شخصياته ويتوحد معها، فيختار لحظات من نشاطه مليئة بحيوية ودفء شخصية خيرى نفسه، فيختار أن يصوره فى عرس بالقرية ليرقص مع الفلاحين فتشعر وكأن المخرج بنفسه هو من يرقص، يلتقط بشارة منادى القرية الذى يعلن عن التطعيم وموعده كما يطلب  الطبيب منه، وعن الجاموسة التى ضاعت والولد الذى تاه، ويختم إعلانه بجملة " يا حلاوة عليك يا دا الوقت" التى تصادف هوى فى نفس المخرج فيكررها دون مبالغة، كما يلتقط حركة يجدها مصدر للفكاهة حين يحمل اثنان من الفلاحين الطبيب بضع خطوات فى المياه حتى لا تتسخ ملابسه فيضيف الى المشهد موسيقى عسكرية وكأنه طابور لقائد همام. وهكذا يكمن جمال فن خيرى بشارة بنجاحه فى نقل الإحساس الذى يعانيه إلينا وتلك هى سمة الفن كما اعتقد العظيم ليوتولستوى فى كتابه " ما هو الفن؟" الذى كتب أواخر القرن التاسع عشر.ففيه يعرف الفن بأنه نشاط انسانى ينقل من خلاله الفنان أحاسيسه إلى الآخرين. وهذا ما يغعله خيرى فى كل أفلامه المعبرة عن انفعاله بتفاصيل العالم من حوله. 

 قبل أن تظهر مصطلحات نقدية مثل الدوكيودراما أو الدراما التسجيلية، كان خيرى يعيد صياغة عناصره التى عاينها ليقدم فيلما يكسر القوالب السائدة للفيلم التسجيلى التى ظهرت قبل عمله، يحصل عنه على جائزة الدولة التشجيعية وعدة جوائز أخرى، ولم يكن العمر المتقارب فقط هو ما يجعل خيرى يتوحد مع شخوص أفلامه التسجيلية بل الروح المبدعة التى تتسم بمظهر تلقائى يخفى وراءها حسابات معقدة تدور فى ذهنه، مخاضا لفكرة فنية ما، عبد البديع الذى كان فى عمر أكبر من خيرى بشارة ولكنه وجد فيه روح الإبداع الفطرية والقدرة على الابتكار فى ظروف قاسية تشبه الظروف التى كان خيرى ورفاقه يصورون بها أفلامهم، معدات بدائية فى التصوير والصوت، كان مسجل للصوت يسمى الناجرا، يحضر به مهندس الصوت جميل عزيز أو مجدى كامل ويسجلان فى الموقع، كثيرا ما كانت التسجيلات تحتاج جهدا فى مراحل لاحقة لتكون نقية ومتوافقة مع الصورة، ولكن خيرى كان يهتم بأصوات المكان وطبيعتها التى تخلق إيقاعا حيا يفيد فى ابراز الشخصية وعلاقتها بالمكان، اكتسب خيرى خبرته من المساعدة فى أعمال مع مخرجين كبار ، مع توفيق صالح فى " يوميات نائب فى الأرياف" ومع عباس كامل فى " أنا الدكتور" . كما اكتسب الخبرة من أفلامه التسجيلية الدرامية قبل أن يدخل حقل الصناعة مع النجوم بفيلم " الأقدار الدامية " الذى لم يكن معبرا عن طموحه لعمل السينما التى يريدها، وشاءت الأقدار ألا يعرض إلا بعد فيلمه الثانى " العوامة 70 " ( 1982) المعبر عن أسلوبه الذى بدأه فى أفلامه القصيرة فيتناول شخصية مخرج يصور فيلما فى مصنع للنسيج، فكانت دراما بها مسحة تسجيلية وكأن خيرى لا يمكنه أن يقدم عملا لا يشعر أنه يعبر بدرجة أو بأخرى عنه وعن جيله. 
ينجح الفيلم بدرجة ما ولكن النجاح الكبير سيحدث مع فيلم " الطوق والأسورة"  ( 1986) الذى كتب له السيناريو يحى عزمى عن قصة للأديب الصعيدى يحى الطاهر عبد الله وكتب الحوار للفيلم الشاعر عبد الرحمن الأبنودى، فيلم يتم اختياره فى قائمة أهم أفلام السينما المصرية ( رقم ) يعود بنا لطريقة عمل فترة ذهبية للسينما المصرية كان يتعاون فيها أربعة أشخاص فى كتابة الفيلم ودائما يكون هناك متخصص بالحوار. حقق الفيلم نجاحا كبيرا لخيرى مع نقاد السينما ولكنه أصبح لعنة تطارده كلما قدم فيلما آخر يسألونه وأين هذا من " الطوق والأسورة " يقاطع خيرى الصحفيين منفعلا (أعجبك الطوق روح اعمل فيلم زيه وما طالبنيش أعمله تانى ).
 يعقب الطوق والأسورة فيلم "يوم مر يوم حلو" للسيناريست فايز غالى عن أسرة تسكن حى شبرا، مسقط رأس بشارة وغالى يقدمان فيه حكاية أسرة مصرية ظروفها صعبة. الأم فاتن حمامة النجمة التى اقتنعت به من بين مجموعة مخرجى الواقعية الجديدة ومعها من الأبناء المغنى محمد منير و المغنية سيمون، منير متزوج من أختها ولكنهما يتحابان، ويقدم خيرى لها فاصلا من الغزل يتبادلان فيه مقاطع من أغانى مصرية معروفة ومحبوبة للجميع، مشهد يمثل تحية لهذا النوع الفنى الذى ازدهر فى الخمسينيات بمصر، يطوره بشارة فى فيلمه،  يستخدم خيرى بشارة الأغانى على طريقة الميوزيكال الأمريكية بتميز يخصه، يستلهم ولكنه لا ينقل نقلا مباشرا ولا يقتبس بشكل فج. الفيلم كان محزنا حتى أن نكتة كتبت عنه يوم مر ويوم أمر . سنلحظ أن خيرى قدم سيناريست لأول مرة د. يحى عزمى، وقدم فايز غالى لأول مرة أيضا وإن كان المونتاج مع عادل منير فى هذه الأفلام المتتالية لكنه سينتقل للعمل مع أحمد متولى فى فيلم مختلف تماما، فى طريق سلكه بجسارة ألبت عليه النقاد والصحافيين، فيلم " كابوريا "( 1990) أفخر أننى شاركت بالعمل فى هذا الفيلم مونتيرا مساعدا مع المونتير الفنان أحمد متولى، " كابوريا" كان نقلة لخيرى بشارة قدم من خلاله تجديدا للفيلم الموسيقى المصرى وقدم فيه الممثل أحمد زكى فى شكل اتخذه الشباب قدوة بقصة شعره الغريبة، ذكرنى بجيلنا الذى ارتبط بالفنانة شادية وقصة شعرها الجميلة. 
 على مستوى الشكل أجد خيرى بشارة مجددا فى المواقع التى يختارها  لتصوير أفلامه، وفى كلمات أغانى طلبها شارحا لهم ببساطة " عاوز أغنية عن الأكل، عن الطعام المختلف" فكانت أغنية رائعة وظفها بشكل رائع وتوافق معه حسين الإمام الذى رغب فى التجديد أيضا وكان هو منتج الفيلم ومؤدى أغانيه الغريبة. خيرى كان مجددا فى كل مشاهد فيلمه، أتوقف عند مشهد تلقى فيه السيدة الأرستقراطية شعرا ركيكا على الملاكم الشعبى الذى فتنها فيكتم ضحكه ساخرا فتلطشه بالقلم، هنا خيرى وضع نفسه مكان حسن /أحمد زكى فى سخريته من الكثير من الفنون الزائفة، ونجح فى نقل إحساسه هذا  كما يفترض بفنان أصيل ( كل نتاج فنى، إذا كان نتاجا صادقا ، ما هو إلا تعبير عن أحاسيس الفنان الحميمية) هكذا كتب تولستوى ويا له من قول ينطبق تماما على خيرى بشارة.


ورغم اختلاف روح كل فيلم إلا أننى أجد بينها جميعا رابط واحد بالانحياز إلى بطل من البسطاء فى "كابوريا " ملاكم بساحة شعبية وقبله محمد منير ميكانيكى " يوم مريوم حلو" ، خيرى بشارة المسيحى اليسارى الذى يعشق تكبيرات العيد ويغنيها حين يتذكرها حين أجرينا معه حوارا مطولا الناقد الكبير أحمد يوسف وكاتبة هذه السطور لمجلة النقاد (عالم السينما ) خريف وشتاء 2006 ، ليقدم دليلا عمليا على ما يقوله مثقف كبير د. ميلاد حنا أنا مسيحى بثقافة إسلامية، خيرى الذى تشعر أنه جمع عراقة الصعيد مع شقاوة ابن شبرا الحى القاهرى للطبقة الوسطى وفيه تجمع كبير لمسيحى مصر، خيرى القلوق الذى لا يستقر على لون فنى ظاهريا، وإن كانت براعته الكبرى قد ظهرت كما أعتقد في أفلامه الغنائية والتى بلغت روعتها مع فيلمه الكبير " آيس كريم فى جليم" (1992) الذى يجده كثير من النقاد أفضل أفلامه. فيه قدم دور العمر للمطرب عمرو دياب – الملقب حاليا بالصخرة لثبات موقعه على رأس مطربى العصر – كما قدم تعبيرا فنيا فى معادل فنية لواقع نعيشه ونعرفه مع تحولات فى الطبقة المثقفة المصرية ولتعبيره الفذ عن موت الاشتراكية فى مصر ومطربها " زرياب" المعبر عن ظاهرة الشيخ إمام من خلال شخصية الممثل الذى اكتشفه داوود عبد السيد ووظفه بشارة فى فيلمه أفضل توظيف، مع لزمة كلامية كوميدية " يا ولاد الأفاعى" يضحك لها خيرى بنفسه قبل أن تُضحك أحدا غيره، علاقة خيرى بعناصر محددة من أفلامه وتجاوبه معها يذكرنى بحديث مبدع القصة القصيرة يوسف إدريس الذى قال فيه ( إننى  لو لم أعجب بما أكتب وبأن أكون أول قاريء لأعمالى لتوقفت عن الكتابة فورا لأنى عندها أكون أكتب من عقلى الباطن ولا أكتب عن شيء أنا منفعل به ). مرة أخرى انفعال الفنان الصادق ونجاحه فى نقل مشاعره للمتلقى، هذا هو الفن. خيرى بشارة فى السينما التسجيلية القصيرة هو يوسف إدريس القصة القصيرة، كلاهما فنان يلقب أحيانا بالجنون، تجمعهما شخصية نزقة وإبداع متفرد يصل إلى قاعدة عريضة من متذوقى الفن الرفيع.
 خيرى بشارة هو مجنون الفيلم السينمائى الذى يقدم فيلما عن شخصية هو منفعل بها، فى أماكن تثيره، وعن أفعال يقومون بها، يكون  هو أول المنبهرين  والمنفعلين بها. خيرى بشارة الثمانينيات والتسعينيات الذى أجبرته ظروف الحياة ومتطلبات المعيشة أن يقبل بفيلم سبقه للتعاقد على قصته الأساس مخرج آخر وهى قصة جزيرة الماعز قدمها على بدرخان فى فيلم " الراعى والنساء " مع يسرا وسعاد حسنى وأحمد زكى ،وقدمها خيرى فى فيلم مع نادية الجندى ومحمود حميدة " رغبة متوحشة " (1991) ، المدهش أن العملين تم انتاجهما فى عام واحد وكانا مختلفين تماما وناجحين. كما أجبرته ما سمى بأزمة السينما المصرية وفى جانب منها الحرب على جيله بأكمله أن  يخرج مسلسلات للتلفزيون متوسطة المستوى، وبرغم ذلك لا يزال خيرى بشارة فنانا أصيلا  يحمل بذور التجديد التى تنتظر مناخا مواتيا يستقبل فنه المفعم بالمشاعر.
نجاحات كبيرة حققها بحصوله على جوائز عن كل أفلامه القصيرة، وعن العديد من أفلامه الطويلة، وخاصة فيلمه " الطوق والأسورة" الحاصل على أكثر من 17 جائزة، وفيلم " يوم مر ويوم حلو" 10 جوائز. وآخرها جائزة الهرم الفضى من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى عام 1996 .
ما أبعد الليلة عن البارحة ولكن الحياة مستمرة وكذلك امكانية العودة لأنه ما زال فى جعبته الكثير ليقدمه، بعضه حكى لنا عنه فى حواره مع مطبوعة النقاد " عالم السينما" منذ ما يزيد على عشر سنوات، وبعضه الآخر لم يفصح عنه لأحد ..
والأيام بيننا .. فى انتظار عودة الابن الضال. 
صفاء الليثى      
القاهرة 2017
نشر بمجلة الثقافة الجديدة عدد مايو 2017 ملف خاص عن خيري بشارة     




No comments:

Post a Comment