Saturday 22 February 2014

الدراما التسجيلية " 1995"



1995، بين قسوة النظام وعاطفية الثوار
 
"1995"  دراما تسجيلية عن التعذيب فى السجون المصرية فى ظل أنظمة مختلفة، وعن النضال ومقاومة السلطات من خلال ما يرويه باسل رمسيس المخرج والكاتب المصرى من مدريد بأسبانيا ومن حجرة مكتبه يروى لمخرج الفيلم خالد أ. يوسف عن تعذيبه وزميلين له أعوام 1990،1991، و1995 . كما يعود بذاكرته إلى الستينيات ويروى عن تعذيب صديق والده " نجاتى عبد الحميد" فى سجون عبد الناصر. استخدم خالد أ. يوسف عائلة رمسيس بمواد وثائقية من صور فوتوغرافية، ولقطة وحيدة متحركة للأب الشيوعى رمسيس لبيب عاد إليها أكثر من مرة فى توظيف درامى لعلاقة الأب بالابن وبفكرة الاستمرار فى النضال.

يقدم المخرج- وهو نفسه مدير التصوير ومونتير الفيلم- جانبا مما يحكيه باسل بإعادة أداء تمثيلى لما يحدث ، مستخدما شريط صوت مركب من مؤثرات صوتية وموسيقى مؤلفة  للتعبيرعن الحالة الشعورية للتجربة الخاصة جدا والمريرة عن التعذيب. نجح المخرج عبر توظيفه للإضاءة وإظلام الشاشة فى التعبير عن قسوة التعذيب ومدى تأثيره على شاب رضع النضال وتربى على حكايات كانت تروى بطرافه حببته فى الكفاح والتضحية من أجل الدفاع عن أفكاره وعن الناس. على مدى 22 ق هى زمن عرض الفيلم يحكى باسل رمسيس، ويقوم المونتاج بالربط والانتقال من مادة وثائقية محدودة لعدة صور لعائلة رمسيس - أبطال الفيلم- ومع مشاهد لإعادة الأداء لتجربة يشرحها باسل بصوته نخلص من الفيلم أن الأنظمة التى تعاقبت على حكم مصر اتفقت جميعها فى أساس واحد، كونها سلطة تدافع عن وجودها بكلمات جوفاء، استخدم المخرج للتعبير عنها كلمات من خطاب لوزير الداخلية اللواء زكى بدر فى مجلس الشعب " قوتنا حق، وسلطتنا عدل" تقف فى مواجهتها طليعة ثورية مستمرة فى نضالها ضد الأنظمة التى تبين عدم اختلافها فى أولوية الحفاظ على وجودها حتى لو كان من يهددها شابان فى العشرينيات بنقاء ثورى وحلم رومانسى عن تغيير النظام للأفضل لصالح جموع الناس.

ظهرت براعة خالد أ. يوسف فى المونتاج عبر الفيلم، وخاصة فى الوحدة المشهدية التى يحكى فيها عن تفاصيل تعذيبه، وتتقاطع مع حكيه لقطات من خطاب زكى بدر بصوته النحاسى الذى يذكرنى بصوت قاضى الإعدام فى فيلم " صراع فى الوادى". يصرخ الجلاد بتفاخر أمام نواب الشعب – من المفترض أنهم نواب الشعب : " فلن ترتعش أيدينا، ولن تتخاذل قراراتنا، طالما نلتزم بالقانون"، بينما الشاب فى العشرين يعذب بالكهرباء ويذوق رعشة الموت، مستحضرا صورة أبيه فيزداد قوة ويأبى الاعتراف،  صوت باسل بعد صوت كهرباء " لسعة كهرباء لا تعطيك جرعة للموت" ويكمل الجلاد خطابه: "إن كل المحاولات التى تتجه إلى الشرطة"، باسل يكمل " جسمك يتوتر"، وزكى بدر يكمل "عقيمة وفاشلة". الحوار مستمر بين باسل بصوت هادئ عن تعذيبه وبين الصوت النحاسى لوزير داخلية النظام، ريقك يبقى ناشف ومعدتك بتشتغل، " ولن ترتعش أيدينا للحفاظ على جبهتنا الداخلية ، ووحدتنا الوطنية وسلامنا الاجتماعى" ، يفاجئنا باسل بأنه كان "مبسوط"... غالبا بعد أن استعان بخيالات جنسية مختلطة مع صورة الأب المستلقى فى راحة على كنبة بغرفة المعيشة فى البيت ووجه لفتاة تغنى فى رحلة، صور وخيالات يستحضرها المناضل ليتحمل التعذيب فلا ينهار.

لا يكتفى الفيلم بذكر وقائع التعذيب بل يعرج إلى حكايات إنسانية عن الأب والأم المتسمين بالعواطف والمحبة لكل الناس، عن مثالية الأب وحزنه الشديد بعد اعتراف الابن له بأنه كان يسرق من كانتين الكنيسة الذى تطوع للعمل به ليدعو أصحابه على ساندوتش هامبورجر لم يقاوم إغراءه. تنزل دمعة من عين الأب ويعلق على اعتراف باسل: لم أكن أتصور أن ابن رمسيس لبيب الشيوعى يطلع بيسرق وحرامى. رد الفعل الهادئ منع باسل من تكرار أى خطأ يسبب حزنا للأب الحنون.

 ما يرويه باسل عن تعذيبه وعن تعذيب الزميل الناصرى الذى اضطر للاعتراف عليه بعد التعذيب، وبعد تهديده باغتصاب والدته المسنة الفقيرة، لابد أن يسجل كشهادة وبلاغ عما حدث. يقوم الفيلم بهذا الأمر على نحو يستوجب معه التحقيق فى أحداث فى سنوات مختلفة من التسعينيات، فى نوع من الجرائم لا تسقط بالتقادم كما هو مذكور فى الدستور الذى صوتنا عليه بنعم بعد عصر الكثير من الليمون. 

صنع خالد أ. يوسف فيلمه بالكامل باستثناء الموسيقى الى ألفها" توماس كونر"، دون إنكار لدور باسل رمسيس فى الأداء ونجاحه فى استحضار لحظة مر عليها ما يقارب العشرين عاما، بوجه حزين يبدو هادئا على السطح ، محاولا حبس دمعة ملوحا بيد ممسكة بسيجارة. ولم تبد ملامح العصبية إلا قبل النهاية بدقيقتين وهو يحكى عن نص كان يكتبه من مقبرة الوالد، وعن جلوسه فى مقهى الشاطبى حيث ذكرياته مع والده. تختلط مع الذكريات الأسف لأنه مات قبل أن يشهد ثورة يناير وقبل أن يشهد جزءا من أحلامه يتحقق. الفيلم إنتاج 2013 وجه فيه المخرج الشكر لعائلة رمسيس لبيب  التى تصادف أننى أعرف أفرادها ما عدا الأب الذى نجح الفيلم فى رسم صورة كامله عنه كإنسان مسيحى شيوعى مصرى نقى، ربى أبناءه على حب السياسة والنضال والكفاح.

باسل رمسيس صانع أفلام مصري يعيش بين مدريد  والقاهرة، على حافة عامه الأربعين يتذكر المرات الأربع التي تم فيها حبسه على خلفية سياسية خلال تسعينيات مبارك، أخرها عام 1995، تلك المرة الأخيرة التي أعتقد فيها أنها أيامه "الأخيرة".  بالنسبة لى هو مفكر وناشط  سياسى ألتقيه دوما فى ميادين الثورة، فى معركة الاتحادية أصيب بكسر فى قدمه، والتقيته وساقه بالجبس، ووالدته تحاول ألا يغيب عن نظرها فى الزحام. أما خالد أحمد يوسف فهو صانع أفلام مقيم ودراس في مدريد بإسبانيا، من مواليد القاهرة 1978، يعمل بالكتابة الرياضية والسينمائية منذ عام 1997 وهو كاتب سيناريو ومونتير وممثل. إلى جانب دراسته التصوير الفوتوغرافي وفن الدراما المسرحية، قام بكتابة وإخراج أربعة أفلام قصيرة وفيلمين تسجيليين قصيرين في الفترة بين 2007 و2014.

شارك فيلمه "1995" فى عدة مهرجانات دولية، منها المسابقة الرسمية مهرجان في إيسلندا و،فى المسابقة الرسمية لمهرجان اوكرانيا عام 2013، كما شارك  عام 2014 المسابقة الرسمية مهرجان جوتنجن في ألمانيا. 
نشر بجريدة البديل الأربعاء 19 فبراير 2014 صفحة فنون.




No comments:

Post a Comment