Wednesday 16 October 2013

الاستثناء والقاعدة


قراءة جديدة            
 

مسرحية برخت والفن الخالد

فى عام 1930 كتب الشاعر والكاتب المسرحى الألمانى  برتولد بريخت مسرحية " الاستثناء والقاعدة" أثناء إقامته فى المصيف الفرنسى " لولا فاندو" على شاطئ البحر الأبيض المتوسط . وتبين المسرحية التى مثلها مسرح الجيب بالقاهرة فى فبراير 1964 كيف أن فعل الخير يصبح هو الاستثناء من القاعدة فى مجتمع يسوده الشر ويحتدم فيه صراع المصالح والطبقات، حتى إذا قدم الضعفاء والفقراء الخير أسئ فهمه من جانب المستغلين والأقوياء، وراح القانون أيضا يبرر سلوك هؤلاء .
شخصيات المسرحية محدودة هى التاجر المستغل ، الأجير الضعيف، الدليل الفقير، القاضى  القوى، و3 أشخاص ثانويين. تبدأ بالجوقة تنبه المشاهدين وتناشدهم بألا يقولوا " هذا أمر طبيعى" بل تدعوهم لتبين وجه الغموض والتفتيش عن وجه الضرورة فيما يعرض عليهم.
المسرحية التى أعيد قراءتها حاليا من سلسلة مسرحيات عالمية بدأت إصداراتها فى 15 مايو 1965 – الستينيات المجيدة ثقافيا ووطنيا- ترجمها د. عبد الغفار مكاوى . وتروى المسرحية عن التاجر الذى اصطحب أجيرا يحمل عنه حقائبه، ودليلا يرشده إلى طريق الوصول حيث بئر البترول ليجنى ثروة. بمنتصف الطريق يطرد التاجر الدليل عندما عامل الأجير معاملة حسنة فخاف من تقاربهما، وبقى مع الأجير الذى ضل الطريق وكان الدليل أعطاه زمزمية ماء لأنهما سيمران بصحراء قاحلة، وطلب منه إخفاءها عن التاجر الذى كان معه زمزميتان فرغا من المياه، وحين عن للأجير أن يمد يده ليعطيه الماء من زمزميته، ظن التاجر ونظرا لمعاملته السيئة للأجير أنه سيلقى عليه حجرا، فأرداه قتيلا. وفى المحاكمة شهد الدليل لصالح الأجير ولكن هيهات فالقاضى وهو القوى المساند للمستغل التاجر حكم ببراءة التاجر رافضيا الاستثناء من القاعدة . القاعدة هى علو الشر والاستثناء هو فعل الخير.
الرحمة هى الاستثناء
وتأتى حكمة المسرحية وفكرتها الأساس على لسان القاضى ينشد: القاعدة هى أن العين بالعين/ مجنون من يطلب الاستثناء/ إن مد عدوك يده ليسقيك/ فلا تأمنه إن كنت عاقلا. ويعارضه الدليل منشدا بدوره : فى النظام الذى رسمتوه لنا تصبح الرحمة هى الشذوذ والاستثناء/ لا تكن انسانا فتدفع ثمن إنسايتك غاليا/ الويل لأهل السماح/ الويل لمن كان محياه محبوبا/ إن أراد أن يساعد جاره/ فقف فى طريقه/ وإذا تأوه أحد بجانبك/ فضع أصبعك فى أذنيك/ وإذا استغاث بك أحد/ فامسك خطاك عنه/ الويل لمن ينساق وراء عواطفه/ ويمد يده ليسقى إنسانا/ والذئب فى الحقيقة هو الذى يشرب.
السيد والعبد ... تلك سنة الحياة
فبعد أن أنشد التاجر : كتب الموت على الضعيف /كما كتب القتال على القوى/تلك سنة الحياة/ ضربة يد للقوى/ وضربة قدم للضعيف/ تلك سنة الحياة/من سقط فدعه يسقط/واضربه أيضا بيدك وقدميك/ تلك سنة الحياة/من ينتصر فى المعركة يتبوأ مكانه فى المأدبة/وهذا هو جزاؤه/والطاهى لم يحص عدد الموتى/ وحسنا ما فعل/ والله الذى خلق كل شيء / قد خلق السيد والعبد/ والحكمة فيما رآه/ حين يسير كل شيء على ما يرام/ يمدحك الناس/ وعندما يفسد كل شئ / يسخرون منك/تلك سنة الحياة.
رعب الجلاد يجعله يفتك بالضحية
بالمسرحية توصيف عبر مقطع يعبر عن الحالة التى تعيشها الشعوب المقموعة فى مواجهة النظم الدكتاتورية التى تستعين بجهاز الشرطة ، يقول القاضى : ..مثل هذا يحدث فى دوائر البوليس ، فأنت ترى عساكر البوليس يطلقون الرصاص على جمهور من المتظاهرين.. على قوم لا شك أنهم مسالمون ، فما الذى يجعلهم يطلقون عليهم الرصاص؟ لماذا يفتكون بهم؟ الجواب بسيط، ذلك لأنهم لا يستطيعون أن يفهموا عدم مبادرة هؤلاء المتظاهرين لاقتلاعهم من فوق ظهور خيولهم والفتك بهم لساعتهم. فإذا أطلقوا عليهم الرصاص فذلك لأنهم خائفون.   
هكذا الفن الحقيقى يستشرف المستقبل، ويكون قادرا على البقاء بما وصل إليه من حكمة لأزمان آتية تتخطى اللحظة التى صدر فيها. مسرحية كتبت فى الثلاثينيات، وترجمت ومثلت بالستينيات بمصر وتشرح كثيرا من الأحداث التى نعيشها هنا والآن.
وهكذا تتم قراءة العمل الفنى وأنت مشبع بأحداث اليوم، فتسقط عليه هواجسك الآنية، ومخاوفك الحالية دون قصد من المؤلف الذى كتب بوحى من ماضيه وحاضره، غير مدرك لكيفية تأثر مستقبلك به. وحده الثورى يعى أن ما كتبه قد ينبهك لما يمكن أن يحدث لك. وحده الفنان الملتزم الذى يقدم فنه هادفا لتوعية المتلقى وتحذيره مما يمكن أن يحدث له.
صفاء الليثى
القاهرة 2013

No comments:

Post a Comment